بقلم أندرو ك. ب.  ليونغ (الخبير الدولي والاستراتيجي الصيني المستقل. رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة أندرو ليونج المحدودة للاستشارات…

    بقلم أندرو ك. ب.  ليونغ (الخبير الدولي والاستراتيجي الصيني المستقل. رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة أندرو ليونج المحدودة للاستشارات والاستثمارات.)

    Andrew-K.P.Leung_تشهد الصين تحديات وطنية وعالمية غير مسبوقة لم تشهد لها مثيل منذ مئة عام مثل العداء الذي لا يعرف حد من الولايات المتحدة تجاه الصين، الجائحة العالمية المدمرة والتي استمرت لثلاث سنوات، وتبعات حرب الاستنزاف القارية التى تقودها الولايات المتحدة ضد روسيا لصالح أوكرانيا.

    تعد أهداف رئيس الوزراء لي كي تشيانغ -والذي تقترب ولايته من الانتهاء- أهداف حكيمة بشكل عام وتتمثل في تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 5٪، توظيف 12 مليون موظف جديد، وابقاء معدل التضخم عند نسبة 3٪. وعلى الرغم من واقعيتها فلا يزال هناك سوء فهم غربي عميق وتشويه خبيث صريح لما تحاول الصين تحقيقه في عهد الرئيس شي جين بينغ.

    قد يساعدنا النظر للأبعاد التالية في تكوين صورة واضحة .

    أولاً، لا تمثل الدورتان الحاليتان سوى فصل جديد في النهوض بال”الصين 3.0″ وهو مصطلح أطلقه مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن العاصمة في ال28 من أكتوبر 2021.

    ي عهد الرئيس ماو تسي تونج قامت “الصين 1.0” “. وفي عهد الرئيس دنغ شياو بينغ “الصين 2.0” حيث سُمح لبعض الناس أن يصبحوا اثرياء قبل الآخرين. أما عن الصين 3.0 فهي سباق الرئيس شي نحو النهضة الوطنية وحلم الصين، الهدف المئوي الثاني المتمثل في أن تصبح دولة اشتراكية قوية، ديمقراطية، متحضرة، متناغمة وحديثة، وذلك بحلول عام 2049. وقد أكد الرئيس على  ذلك مجددًا في مراسم أداء اليمين الدستورية في الدورتين.

    يُعد الارتقاء بالوضع القومي هدفاً مشتركاً لجميع الدول ذات السيادة. ومع ذلك، فقد تم صياغة  ذلك في القصة المشهور لمايكل بيلسبري: ماراثون المائة عام على أنه “إستراتيجية الصين السرية لاستبدال أمريكا كقوة عظمى عالمية”. في الواقع، فقبل أربعة عقود، ناهيك عن المائة عام التي تسبقها، كانت الصين فقيرة جدًا وأضعف من أن تُشكل هذه الادعائات.

    ثانيًا، يستعد لي تشيانغ -رئيس الحزب في شنغهاي والرئيس السابق لموظفي الرئيس شي في مقاطعة جيجيانغ- ليكون رئيس مجلس الدولة الجديد. وعلى عكس ما تدعيه أبواق الجهلة أن اختياره لكونه “الرجل الذي لن يقول لا – Yes man” أو أنه سيكون موافقاً للرئيس فى جُل قرارته، إلا أن حقيقة الأمر أنه يتمتع بسجل حافل وعقود من النجاحات والابتكارات الداعمة لنمو السوق ومعروف بالتزامه بتوفير بيئة عمل مريحة وانفتاحه على الاستثمارات الأجنبية واحتضانه للاقتصادات الجديدة وإطلاقه العنان لريادة الأعمال

    ويتم اتباع معيار مماثل لاختيار الأفضل في اللجنة المركزية المكونة من 205 عضو والمكتب السياسي المكون من 24 عضوًا بالإضافة إلي القيادة العليا. وتتمثل نسبة كبيرة من هؤلاء الأعضاء في أفراد متعلمين وذوي خبرة عالية ويمتلك جزء كبير منهم على درجات مثل الدكتوراه في مجالات مختلفة مثل الحسابات، العلوم النووية، الملاحة الجوية، الهندسة الدقيقة، البيئة، وشؤون الأقليات.

    ثالثًا، سيطرة أمريكا على أشباه الموصلات، التركيبة السكانية سريعة التقدم في السن، الاقتصاد البطىء جداً، البيئة الخارجية المعادية، التكهنات المنتشرة حول ما إذا كان بإمكان الصين التغلب على فخ الدخل المتوسط، ناهيك عن تفوق الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد يسيطر على المستقبل القريب. 

    إن مثل هذا التشاؤم الخاطئ ناتج إلى حد كبير عن التركيز على الماضي وعدم القدرة على قراءة المستقبل.

    وفقًا للنتائج المرصودة في 2 مارس 2023 من متعقب التكنولوجيا الحرجة التابع لمعهد السياسة الإستراتيجية الأسترالي ( ASPI’s critical technology tracker) فإن الصين تحقق تقدمًا مذهلاً في 37 من أصل 44 مجالًا تكنولوجيًا ناشئًا عالي التأثير، يشمل ذلك كل من الدفاع، الفضاء، الروبوتات، الطاقة، البيئة، التكنولوجيا الحيوية، الذكاء الاصطناعي، المواد المتقدمة، ومجالات تكنولوجيا الكم الرئيسية.

    وف يدعم موقف التقدم التكنولوجي في الصين الإقبال السنوي المتوقع لقرابة ال7.7 مليون من خريجي STEM (العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات) بحلول عام 2025. وهذا الرقم يتفوق على مثيله في الولايات المتحدة بأكثر من ثلاثة أضعاف إذا تم استبعاد الطلاب الدوليين. إن نجاح الصين في بناء محطتها الفضائية تيان جونج من الصفر يتحدث عن الكثير من قدراتها العلمية والتكنولوجية.

    استجابة للتركيبة السكانية المتقدمة في السن، تتبنى

    الصين الثورتين الصناعيتين الرابعة والخامسة بقوة، فاستخدام الروبوتات بشكل مكثف أمر شائع فى أغلب المصانع. انتشرت آلات الحصاد الذاتية العمل بمساعدة الطائرات بدون طيار (Drones) فى مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية لتذكرنا بالأعمال الزراعية الأمريكية. بالإضافة إلي الأعداد المتزايدة من الفنادق، المطاعم، المتاجر التي أصبحت ذاتية العمل بشكل كامل مع مساعدة عدد قليل من الموظفين أو بدون موظفين. أصبحت الدولة مجتمعًا غير نقدي حيث يتم تقريبًا إتمام جميع المدفوعات لحظياً من خلال الهواتف الذكية.

    يتم تعزيز الإنتاجية أيضًا من خلال ربط كافة المدن الحيوية للصين في المناطق الواقعة على طول الساحل الشرقي ومناطق أخرى داخلية من خلال أكبر شبكة قطار فائق السرعة في العالم والتي من المقرر أن تتضاعف تقريبًا إلى 70،000 كم بحلول عام 2035. تنزلق هذه القطارات فائقة الحداثة بسلاسة بسرعة 250 كم في الساعة أو أسرع مما سيساعد على مضاعفة الطبقة المتوسطة المستهلكة في البلاد إلى 800 مليون بحلول عام 2035. ومن ثم، فإن تركيز الدورتين على النمو الاقتصادي من خلال إعادة توازن الاستهلاك المحلي.

    ابعًا، في ظل حالة الفوضي التي يعاني منها الاقتصاد العالمي، يشعر بعض المراقبين بالقلق تجاه قابلية تحقيق هدف النمو الحكيم صاحب نسبة ال5٪. لكن مثل هذه الشكوك قد تكون سابقة لأوانها. فوفقًا للتقرير الإخباري لـشبكة تلفزيون الصين الدولية CGTN بتاريخ 27 فبراير 2023، قام ميناء هورجوس -الميناء الحدودي بمنطقة شينجيانغ الويغورية ذاتية الحكم في شمال غرب الصين- بمناولة أكثر من 1000 قطار شحن بين الصين وأوروبا في شهرين فقط لعام 2023 في إشارة إلى أن الصادرات إلى أوروبا تنتعش بسرعة وإن لم تصل إلى المستويات السابقة.

    خامساً، بدلاً من التركيز على الناتج المحلي الإجمالي، تتبنى الصين استراتيجية تحسين الجودة. إن ترقية الخبراء البيئيين إلى مناصب عليا إلى جانب إنشاء قطاع موارد بيئية جديد في المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني (CPPCC) يوضح بقوة مدى سعي الأمة إلى “الحضارة البيئية” مما يعكس فلسفة الانسجام الصينية بين البشر والطبيعة.

    سادسًا، وعلى عكس التصورات، سواء المبالغ فيها أو الغير كذلك، والتي تشير إلي أن الصين أصبحت غنية جدًا بحيث لا يمكن اعتبارها دولة نامية، إلا أنه لا يزال أكثر من 40٪ من سكان الصين البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة يعيشون على أقل من 5 دولارات أمريكية في اليوم، والعديد منهم بدون معاشات تقاعدية أو تأمين طبي. لقد تم انتشال 800 مليون شخص بالفعل من براثن الفقر المدقع في السنوات الأخيرة، ومن ثم فإن دعوة الرئيس شي الواضحة هي “الرخاء للجميع”

    ابعاً، الشكوك الشعبية التي في غير محلها فيما يخص دور القطاع الخاص. تم تصميم حملة بكين الأخيرة ضد عمالقة التكنولوجيا (Big tech) -والتي لا تزال محركًا رئيسيًا لاقتصاد القرن الحادي والعشرين في الصين- بشكل أساسي للحد من سلوك الأوليغارشية (حكم الأقلية) مما يخلق مجالًا أكثر تكافؤًا للمؤسسات الصغيرة حيث تعتمد الدورتان بشكل كبير على القطاع الخاص لتعزيز الحيوية الاقتصادية والابتكار وخلق فرص عمل كافية.

    ثامناً، في تايوان، وعلى عكس الخطاب المروج للحرب، أعادت الدورتان التأكيد على أهمية التوحيد السلمي -المنصوص عليه في ثلاث أوراق بيضاء متسلسلة- من خلال التبادلات الشعبية والثقافية مما أدى إلى تعميق الثقة والتفاهم المتبادلين. ويعيش ويعمل أكثر من مليون تايواني وعائلاتهم في البر الرئيسي. ومن الملفت أنه على الرغم من التردد الأولي لـلسيدة الحديدية السابقة مارغريت تاتشر (Iron lady) إلا أن هونغ كونغ عادت في النهاية بسلام إلى الوطن الأم تحت نظام الدولة الواحدة ذات النظامين (One country two systems).

    اسعاً، ركزت الدورتان على الأهمية الكبيرة للشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP) وهي أكبر كتلة تجارية في العالم وتمثل ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي وثلث سكان العالم وهي الدينامو المحرك لبروز القرن الآسيوي (Asian century). وإلى جانب العالم العربي، فإنها تشكل جزءًا رئيسيًا من الجنوب العالمي (Global south) للاقتصادات الناشئة ومعظمها يضم الصين باعتبارها الشريك التجاري الأكبر. وبحلول عام 2035، ستكون حصة الاقتصادات الناشئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي قد ارتفعت إلى 61٪ باستخدام قياسات تعادل القوة الشرائية وفقًا لآفاق الاقتصاد العالمي الصادرة عن مؤسسة كونفرنس بورد ومقرها نيويورك في فبراير 2023. كل هذا من شأنه تعزيز مركزية الاقتصاد العالمي للصين على الرغم من الفصيل الذي تقوده الولايات المتحدة.

    عاشرًا، تُبَشر الدورتان بتغيير قواعد اللعبة لمؤسسات الحزب والدولة في الشؤون المالية، البيانات، والتكنولوجيا لصالح الاستقرار الوطني، الأمن والاعتماد على الذات استجابةً للمخاطر الخارجية والداخلية المتزايدة.

    الحادي عشر، في طريقه للخروج في نهاية جلسة مبكرة، سعى الرئيس شي عمدًا إلى رؤية الرئيس التنفيذي لهونج كونج جون لي كا تشيو مما عزز رسالته القائلة بأن هونج كونج في ظل نظام الدولة الواحدة ذات النظامين مُقدر لها أن تلعب دورًا محورياً طويل المدى في السعي الوطني لتحقيق حلم الصين.

    وبشكل عام، تعزز الدورتان إنجازات الصين خلال السنوات الخمس الماضية بما في ذلك إعادة الهيكلة الاقتصادية، الإصلاح والانفتاح، تحسين مستويات المعيشة، القضاء على الفقر، التقدم التكنولوجي، تحديث البنية التحتية، التحسين البيئي، والانتصار على الوباء. كل ذلك يضع أساسًا متينًا يمهد للصين 3.0 تحت قيادة الرئيس شي مع ألوان مثبتة على الصاري.

    الكاتب خبير استراتيجي دولي ومستقل في الصين. شغل سابقًا منصب المدير العام للرعاية الاجتماعية والممثل الرئيسي الرسمي لهونج كونج للمملكة المتحدة وأوروبا الشرقية وروسيا والنرويج وسويسرا.

    (الآراء الواردة في هذا المقال تخص المؤلف فقط ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر World Geostrategic Insights).

    يمكنك الإطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال عن طريق زيارة موقع China Daily.

    شاركها.