بقلم أندرو ك. ب.  ليونغ (الخبير الدولي والاستراتيجي الصيني المستقل. رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة أندرو ليونج المحدودة للاستشارات…

    بقلم أندرو ك. ب.  ليونغ (الخبير الدولي والاستراتيجي الصيني المستقل. رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة أندرو ليونج المحدودة للاستشارات والاستثمارات.)

    Andrew-K.P.Leung_بعد الحرب العالمية الثانية، لم تقم أمريكا بحكم العالم وكأنها الشرطي الذي يراقب العالم أجمع، بل نجحت في كونها “المدينة المشرقة أعلى التل” من خلال تقديم مثال لدولة قوية متحدة وديمقراطية، من خلال اقتصاد منفتح وحر، من خلال كونها المد المتصاعد الذي يرفع كل القوارب بامتلاكها للدولار الذي يسير بالعالم أجمع تجاه الصالح العام.

    وعلى الرغم من تراجع الجيش الأمريكي بشكل نسبي في بعض الأصعدة، إلا أنه لا يزال متقدمًا بأميال على أي منافس بما في ذلك الصين، ناهيك عن المزايا التي لا تضاهى من الجغرافيا، الموارد الطبيعية والريادة العلمية والثقافية.

    ومع ذلك، فلم تقم أمريكا باستخدام القوة العسكرية الأمريكية للإطاحة بالحكومات والأنظمة التي لم ترق لها إلا لمرات قليلة. فتراجع هيمنتها ليس شيئاً متصوراً بل واقعاً ملموساً.

    الحكم المحلي في أمريكا في حالة من الفوضى متأثراً بحكم القلة النافذة و
    أبرزها ما يسمى بـ “المجمع الصناعي العسكري”.
    كما يمزقه قيم ومعتقدات متباينة ومعارك دامية دائمة بين حزبيه السياسيين بينما تتمسك الأمة عادة بما تظنة المنقذ السياسي. ويُعد الجمود الأخير طويل الأمد في اختيار رئيس مجلس النواب مثال على ذلك.

    خارجيًا، يزداد انزعاج دولة تلو الأخري بسبب الإزدواجية في المعايير والنفاق الذي يلبي مصالح أمريكا الخاصة على حساب الدول الأخرى بما في ذلك الدول الحليفة.

    كما تنبأت “معضلة تريفين” يتم استخدام الدولار بشكل متزايد كسلاح لتحقيق أهداف أمريكا الإستراتيجية الخاصة؛ يتم استخدام امتيازها المبالغ فيه في طباعة النقود لتمويل الدول ذات الإسراف البالغ ، تمويل الحروب اللامنتهية، بينما تعزز دول أخري على التخلص من المخاوف الاقتصادية، المالية والأمنية.

    وفوق كل ذلك، فلم تعد أمريكا هي المصنع للأشياء التي يريدها العالم ويحتاج إليها وهو الدور الذي أخذته الصين بشكل انتقامي. كما لم تعد أمريكا المستورد الأكبر لنفط الشرق الأوسط فقد انتهت ذروة “البترودولار” الأمريكي.

    ومن المقرر أن تستحوذ الاقتصادات الناشئة، والتي تشمل الصين، على 60٪ من الاقتصاد العالمي بحلول عام  2035 وفقاً لما تشير إليه قياسات معدلات القوة الشرائية لمؤسسة كونفرنس بورد ومقرها نيويورك -وهي مؤسسة فكرية عالمية- والتي تؤكد أن هذه الدول، والتي تشمل الدول الأفريقية، يميلون للصين على الأقل من حيث الجوهر إن لم يكن بالاسم. هذا ليس لأنهم يريدون تبني الأيديولوجية السياسية للصين ولكن لأن الصين أصبحت أكبر تاجر ومصنع في العالم في قلب سلسلة التوريد والقيمة العالمية. تساعد الصين أيضًا في بناء البنية التحتية التنموية والتي تشتد الحاجة إليها مثل المدارس، المستشفيات، الطرق السريعة، السكك الحديدية، الموانئ، شبكات الكهرباء، شبكات الاتصالات وبدون شروط سياسية مسبقة.

    الخطاب التبسيطي حول الصراع الوجودي بين “الديمقراطية” و “ الأوتوقراطية ” يترك الكثير من الأسئلة دون إجابة.

    حرب بين أوكرانيا وروسيا

    بعد أن خدعوا بفكرة “الحملة الصليبية المقدسة – Holy crusade” لحماية أوكرانيا، يبدو أن الكثيرين لا يدعوا لأنفسهم المجال للتفكير ببعض الجدية في حجم ومساحة روسيا، الموارد الطبيعية وغيرها من الموارد التي تمتلكها روسيا، ما إذا كانت روسيا ستفكر في الاستسلام في حرب الاستنزاف الطويلة، أو ما إذا كان التغيير القسري للنظام في روسيا سيؤدي إلى قفز أوروبا من المقلاة إلى النار.

    وكما حدث في الحروب الأمريكية على العراق وأفغانستان، فإن الضجيج والغطرسة لا يثمران عن أي نتائج. وقد بدأ مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون بالفعل ارسال إشارات لتقليص، مالم يكن إنهاء، الشيكات المفتوحة من قبل دافعي الضرائب الأمريكيين للرئيس الأوكراني زيلينسكي.

    وبينما تخلت غالبية الدول الأوروبية عن الغاز الروسي، فمن غير المرجح أن يمر نزوحها زاك على خير؛ فمع شتاء أوروبا القارس فقد تكون كتابة نعي لبوتين شيئاً سابقاً لأوانه.

    وفي الوقت نفسه فإن الحرب الأوكرانيا تُكلف العالم الكثير من حيث الطاقة واضطرابات سلسلة التوريد الزراعية، ناهيك عن التضخم المتفشي.

    حرصت الصين على الابتعاد عن الشئن الأوكراني الروسي لأسباب عدة أبرزها  وحدة الأراضي على النحو المحدد في ميثاق الأمم المتحدة والتي لا تزال عاملًا رئيسيًا في السياسة الوطنية والخارجية للصين. لكن العدوان الأمريكي الذي جعل كلا البلدين عدوين لدودين نجح في تقريب روسيا أكثر من الصين ووضعها في شراكة غير محدودة.

    فمع اختفاء تكتلات الحروب الباردة، وٌثقت العلاقات بيد البلدين الكبيرين من خلال تكامل اقتصادي؛ روسيا كمورد عملاق للطاقة ومنتج زراعي مع حدود صينية تبلغ 4000 كيلومتر بينما تظل الصين أكبر مستورد في العالم لهذه السلع. كما ساعدت زيارة اللاعب ميدفيديف الأخيرة إلى بكين في عقد اتفاق لتخصيص 6.96 مليون كيلومتر مربع في الشرق الأقصى لروسيا للتنمية المشتركة وتحويلها إلى أكبر منطقة اقتصادية خاصة في العالم للمستثمرين الصينيين وتشكل جزءًا من طريق الحرير القطبي الخاص بالصين “Arctic Silk Road”.

    في كتابه الشهير The Grand Chessboard (1997) حذر العميد الجيوستراتيجي الأمريكي الراحل زبيغنيو بريجنسكي من أن أعظم خطر يهدد التفوق الأمريكي يتمثل في التحالف المناهض للهيمنة الذي تشكله الصين وروسيا وإيران. وسواء اعترفت اميركا بهذا الخطر المخيف ام لا، فهو يحدث الآن بالفعل بفضل التهور الأمريكي.

    تايوان

    أعلنت بكين مرارًا وتكرارًا عن ثبتها في تفضيل مبدأ التوحيد السلمي الذي يشكل جزء لا يتجزأ من حلم الصين. وهي تدرك جيدًا تلاعب أمريكا في تأييدها لسياسة الصين الواحدة “شفهياً لا أكثر!” بينما تظهر أن تأييدها هو تأييد أجوف من خلال تجنيدها المزيد والمزيد من كبار القادة لزيارة الجزيرة وخلق المزيد والمزيد من المساحة الدبلوماسية لتايوان كما لو كانت دولة منفصلة و تحويل الجزيرة إلى تابع عسكري.

    كان الرئيس شي جين واضحاً بوضعه عام 2049 كموعد نهائي لفكرة التوحيد السلمي غير متخلياً عن فكرة استخدام القوة عندما يحين الوقت. ففي الواقع، بكين مستعدة ومنذ فترة طويلة لجميع الاحتمالات بما في ذلك قانون مكافحة الانفصال لعام 2005 والنشر المستهدف للقوات البرية والبحرية والجوية (بما في ذلك الصواريخ المضادة للطائرات) بالإضافة إلى بناء الجزر العسكرية في بحر الصين الجنوبي. من الواضح أن التدريبات العسكرية التي أجريت في ساحات العمليات وحصار الجزيرة بعد زيارة نانسي بيلوسي غير الحكيمة إلى تايوان كانت عملية تم التدرب عليها جيدًا مسبقًا.

    وعلي الرقم من أن الغالبية العظمى من التايوانيين لا يريدون التوحيد إلا أنهم غير راضين أيضاً عن فكرة الاستقلال ويفضلون الوضع الراهن حيث يعيش ويعمل أكثر من مليون تايواني وعائلاتهم في البر الرئيسي. فبالنسبة لمعظم التايوانيين لا يبدو التوحد السلمي بشروط أكثر سخاء من هونج كونج ويكأنه نهاية العالم. إن نموذج التوحيد السلمي النهائي لهونغ كونغ سيعم بالفائدة مع الأخذ في الاعتبار تردد السيدة الحديدية السابقة مارغريت تاتشر في التخلي عن المستعمرة البريطانية السابقة.

    التعايش بين القوى العظمى

    القوى العظمى والمتنافسة لا تقوم بالتعاون فيها بينها، بل يسعى كل طرف للسيطرة على الآخر، لكنها تقوم بذلك فقم عندما يصب ذلك في مصلحة أمنها وذلك وفقًا لكتاب “مأساة سياسة القوة العظمى” للكاتب جون ميشيمر وصاحب نظرية “الواقعية الهجومية – Offensive Realism” (2001).

    واستناداً على النظرة الثاقبة لريتشارد إن هاس و تشارلز أ. كوبتشان فيما يخص السياسات الخارجية، والتي تحدثت عنها سابقاً في مقال آخر، فإن فكرة حدوث تحالف جديد للقوي فيما بين الولايات المتحدة، الصين، روسيا، والاتحاد الأوروبي مدعوماً من دول ومؤسسات دولية أخرى لهو شيء وارد جداً في القرن الحادي والعشرين.

    ويقبل هذا المفهوم حقيقة استمرار التنافس بين القوى العظمى فيما يخص مصالحها وأيديولوجياتها الوطنية المختلفة تمامًا. ولذلك فيُتصور الحاجة إلى إطار متفق عليه للمشاورات المنتظمة لمعرفة الخطوط الحمراء المطلقة وحواجز الحماية لدى كل طرف لتجنب حدوث كارثة. مثلما حدث في مؤتمر فيينا عام 1815 عندما نجح التحالف الأوروبي بين القوى العظمى المتنافسة في تأمين قرن من السلام والاستقرار النسبيين في أوروبا حتى الحرب العالمية الأولى عام 1914.

    في الوقت الحالي، ربما يكون هناك الكثير من الكبرياء والتحيز من جميع الأطراف والذي قد يجعل حدوث هذا التحالف صعباً في الوقت الحالي، لكن مع تصاعد التوترات قد تخرج العواقب غير المقصودة عن نطاق السيطرة!

    ولذلك تعتبر المبادرات البسيطة الحالية التي تبديها كل من الولايات المتحدة والصين لإعادة فتح الحوار علامة جيدة. فقد يجعل ذلك القوى العظمى الأخرى تفكر في اتخاذ خطوات مماثلة حتى وإن كان ذلك فقط في سبيل تجنب وقوع كارثة. ربما يطرح نموذج تحالف القوى الجديد مجالاً للتفكير والبحث عن مسار أكثر استقرارًا وإثمارًا للمضي قدمًا، ليس فقط للقوى العظمى المنافسة نفسها ولكن للعالم بأسره.

    الكاتب خبير استراتيجي دولي ومستقل في الصين. شغل سابقًا منصب المدير العام للرعاية الاجتماعية والممثل الرئيسي الرسمي لهونج كونج للمملكة المتحدة وأوروبا الشرقية وروسيا والنرويج وسويسرا.

    (الآراء الواردة في هذا المقال تخص المؤلف فقط ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر World Geostrategic Insights).

    شاركها.