اسلام عبد المجيد عيد

    نذ اندلاع المظاهرات في سوريا في عام 2011، تأثرا بالظاهرة التي عرفت باسم (الربيع العربي)، وبالتحديد مع ازدياد حدة العنف ضد المتظاهرين في ابريل/نيسان 2011 ، وصلت أول دفعة من اللاجئين السوريين الي تركيا وقدر عددهم ب252 لاجئ.

    حاليا لايزال الصراع محتدما في سوريا، وغير مرشح للتسوية في الأمد القريب، خاصة في ظل حالة الاستقطاب الواضح بين القوى الدولية والإقليمية بشأن آليات تسوية الأزمة، وأيضا مع التدخل العسكري الروسي لدعم نظام الرئيس “بشار الأسد” والذي قلب معطيات وموازين القوي علي الساحة السورية. وقد أدت هذه الأوضاع المتردية إلى استمرار المعدلات المرتفعة لتدفق اللاجئين السوريين إلى دول الجوار وعلي رأس الدول المستقبلة للاجئين بكل تأكيد تركيا.

    في البداية كان دخول اللاجئين السوريين الي تركيا بدون تأشيرة، اتباعا للسياسة التي اطلق عليها اردوغان سياسة (الباب المفتوح) وأن السوريون سيكون مرحب بهم في تركيا بأي وسيلة، حتي أعلنت الحكومة التركية في أكتوبر 2011 أنها ستمنح اللاجئين ما تعرف ببطاقة الحماية المؤقتة.

    لكن سرعان ما بدأت أنقرة تغير من سياساتها الداعمة للاجئين، رغم المكاسب التي حققتها باستغلال تلك الورقة للضغط علي الأوروبيين من أجل الدعم المالي، فقامت في الآونة الاخيرة باتخاذ قرارات للتضييق علي اللاجئين وصل بعضها الي الترحيل القسري بعد التراجع الملحوظ لحزب العدالة والتنمية الحاكم في الإنتخابات البلدية خاصة في المدن الكبري وعلي رأسها اسطنبول.

    في القرن الماضي، كانت تركيا قد شهدت هجرات جماعية كبيرة، منها وصول 350 الف مسلم يوناني عام 1923 عقب اتفاق للتبادل السكاني ما بين اليونان وتركيا، واستقبلت ايضا 340000 شخص من العرق التركي كان قد تم طردهم من بلغاريا عام 1989 ، اضافة للقادمين من البلقان والقوقاز ومنطقة اسيا الوسطي،ليصل اجمالي عدد المهاجرين الي تركيا منذ عام 1923 حتي 1990 الي 1.4 مليون شخص.

    ولكن تدفق اللاجئين السوريين يختلف تماما عن الهجرات السابقة في القرن الماضي، فمن حيث العدد علي مدار اقل من ثمان سنوات قدر عدد اللاجئين السوريين بتركيا بحوالي 4 مليون شخص ما يعادل 64% من اجمالي عدد اللاجئين السوريين في العالم، اضافة الي اختلاف النسيج العرقي فكثير من هجرات القرن الماضي كانت لاشخاص ينتمون للعرق التركي وهو ما سهل انصهارهم في بوتقة المجتمع التركي.

    بخلاف صعوبة إندماج السوريين داخل المجتمع التركي، فإن البلاد حاليا تشهد تراجع اقتصادي وانخفاض غير مسبوق في العقدين الأخيرين لقيمة الليرة التركية وهو ما بدا جليا مع انتشار فيروس كورونا في الفترة الأخيرة ،اضافة لأزمة البطالة التي بدأت تظهر بوضوح مع ازدياد أعداد العمالة السورية الرخيصة، كل هذا وأكثر اصبح عبئا ثقيلا يؤرق صناع القرار في أنقرة.

    وسنحاول من خلال هذا الموضوع ان نجد اجابات واضحة للأسئلة الهامة التي تتمثل في:

    ما الأسباب التي دفعت الرئيس أردوغان في البداية لإنتهاج سياسة الباب المفتوح؟

    كيف استغل الرئيس أردوغان قضية اللاجئين السوريين؟

    ما الأسباب التي دفعت أنقرة لانتهاج سياسة مغايرة في التعامل مع اللاجئين السوريين؟                      ما موقف الاتحاد الأوروبي من تصعيد أنقرة لقضية اللاجئين السوريين؟

    ما مصير اللاجئين السوريين ما بعد الانتخابات البلدية الماضية في البلاد؟

    ما هي الخطوات التركية في تحقيق عملية الإنصهار المجتمعي للاجئين السوريين داخل المجتمع التركي؟

    أولا: المراحل التي شكلت الموقف التركي من قضية اللاجئين السوريين

    وجدت أنقرة في بداية الأمر الفرصة سانحة للإطاحة بأحد الأنظمة المعادية للمشروع التركي وهو نظام الرئيس بشار الأسد، ظنا منها أن سقوط النظام في سوريا هو مسألة وقت فقط، كما حدث في تونس ومصر وليبيا، فبدأت تركيا علي الفور بتسهيل عملية دخول اللاجئين لتركيا وما اسمته بسياسة الباب المفتوح.

    لكن مع مرور الوقت، وبالتحديد مع التدخل الروسي لدعم النظام في عام 2015 ذلك بخلاف الدعم الإيراني أدي ذلك لتحطم الآمال التي عقدها اردوغان علي سقوط النظام، بل واصبح النظام وحلفاؤه حاليا لهم الكفة الارجح حاليا بالبلاد،فبدأ أردوغان يعيد حساباته من جديد، خاصة وأن عودة هذا الكم الهائل من اللاجئين اصبح في حكم المستحيل،وبالتزامن مع الأزمة الإقتصادية وانخفاض شعبية حزب العدالة والتنمية في البلاد،تغيرت السياسة التركية تجاه اللاجئين الي التضييق عليهم وترحيل العديد منهم.

    1-سياسة الباب المفتوح:

    اعتمدت أنقرة سياسة الباب المفتوح منذ بداية الأزمة السورية عام 2011،ولكن ذلك لم يخف الأطماع التركية التي كانت وراء هذا القرار، ومحاولة الإستفادة من الوضع العصيب الذي تمر به الجارة سوريا فكان المبدأ الذي أعلنته تركيا مستندا علي عدة دوافع منها:

    1-الضغط السياسي علي الأوروبيين بورقة اللاجئين السوريين:

    بدأت بوادر الابتزاز التركي للأوروبيين مع تراجع حلفاء تركيا وخسائرهم المتكررة علي الأرض السورية،الي أن توصلت تركيا لاتفاق مع الإتحاد الأوروبي بخصوص وضع اللاجئين والمساعدات الأوروبية عام 2016 ، ومع تزايد الأزمات الداخلية في تركيا والضغط الشعبي الشديد المعارض لوجود اللاجئين،بدا الرئيس أردوغان في موقف لا يحسد عليه،فعاد من جديد لاستخدام ورقة اللاجئين لتهديد الأوروبيين، وكان أردوغان قد أعلن في وقت سابق بالتزامن مع العملية التركية في الداخل السوري والتي أطلقت عليها تركيا عملية “نبع السلام” والتي استنكرها ايضا الاتحاد الأوروبي “ان هناك ملايين اللاجئين السوريين في تركيا وفي حال استمر الاتحاد الأوروبي في ذلك فان تركيا ستفتح ابوابها لعبور اللاجئين السوريين نحو أوروبا” في تهديد صريح وواضح، ضرب به أردوغان باتفاقه مع الاتحاد الأوروبي عرض الحائط، بل أن أنقرة لم تكتفي بهذا القدر فحسب،فلقد عملت علي استغلال تلك الورقة لإبتزاز اليونان ايضا،في ظل الصراع الدائر بين الطرفين علي غاز المتوسط وتحالف اليونان مع خصوم تركيا (مصر وقبرص) ،فسمحت لمئات اللاجئين بالتوجه الي الحدود اليونانية والبلغارية،وبالفعل أصدر أردوغان أوامره لقوات شرطته (الجندرما) وحرس الحدود التركي في ولاية أدرنة الحدودية وعلى شواطئ بحر إيجه بحشد آلاف المهاجرين، ثم دفع بهم في زوارق صغيرة باتجاه اليونان تمهيدا للعبور منها إلى اليونان وبلغاريا.

    وقد بلغ عدد اللاجئين الذين عبروا الحدود نحو أوروبا حوالي 18 ألفا وهو ما اثار غضب آثينا والتي أكدت بدورها أنها لن تسمح بدخول المهاجرين اليها،ولن تخضع للابتزاز التركي المتواصل.

    2-كسب تعاطف الداخل والترويج لسياسات حزب العدالة والتنمية في الخارج:

    سعي أردوغان لانتهاج سياسة الباب المفتوح في البداية،مستغلا اكتساب قضية اللاجئين لتعاطف شعبي كبير في الداخل التركي، وقد ساندته في ذلك تيارات الإسلام السياسي وحتي التيارات القومية لم تمانع في اتخاذ مثل هذه الإجراءات، باعتبار ان الاستغلال السياسي لهذه القضية سيساعد بشكل كبير علي تدعيم مركز تركيا كلاعب اقليمي رئيسي في المنطقة،اضافة للتوقعات التي كانت تشير بسقوط الأسد كسابقيه في دول عربية أخري.

    أراد أردوغان ايضا استغلال القضية للترويج لسياساته في الخارج،باللعب علي اوتار البعد التاريخي الديني للدولة العثمانية السابقة،والإعتماد علي أذرعته في الخارج وعلي رأسهم جماعة “الإخوان المسلمين” في الوطن العربي للحصول علي دعم شعبي إقليمي،ومحاولة إخراج صورة النزاع في سوريا في الصورة الطائفية وليس في صورته السياسية والوطنية لكسب تعاطف الأغلبية السنية في المنطقة،وبذلك استطاع أن يمهد لتواجده في سوريا من خلال كسب التعاطف العربي والإسلامي الكبير من خلال أحتضان تركيا لأكبر نسبة من أعداد اللاجئين في العالم واستغلال البعد الإنساني للقضية.

    3-تجنيس اللاجئين لدعم الحزب في الإنتخابات المقبلة:

    ينص قانون الجنسية التركية بالسماح للرعايا الأجانب الذين عاشوا في البلاد لمدة خمس سنوات بالتقدم بطلب للحصول على الجنسية. ومن الجدير بالذكرأن وصول الموجة الأولى من اللاجئين كان في نيسان/ إبريل 2011، وهكذا يكون بعض المهاجرين قد أتموا بالفعل شرط المدة الزمنية اللازمة لعملية التجنيس. وبالتالي فإن حوالي 2.5 مليون سوري قد يحصلون على الجنسية خلال السنوات الخمس المقبلة إذا عبرت الحكومة عن الإرادة السياسية لتجنيسهم. ونظرا لامتنانهم المحتمل لدور الرئيس أردوغان في توفير ملجأ لهم، ، وفتح الطريق امامهم للحصول علي الجنسية، يتوقع أن يقوم معظم هؤلاء المواطنين الجدد المحتملين بالتصويت لـ “حزب العدالة والتنمية” الذي ينتمي إليه أردوغان.

    في حين أنّه من المستبعد أن يتم منح جميع اللاجئين الجنسية على الفور، إلا أنّ فتح المجال أمام التجنيس قد يغير بالفعل  من نفوذ “حزب العدالة والتنمية” مقابل أحزاب المعارضة الثلاثة: “حزب الشعب الجمهوري” ذو التوجهات اليسارية ، و”حزب الحركة القومية” اليميني، و”حزب الشعوب الديمقراطي” الموالي للأكراد.

    2-سياسة التضييق والترحيل الإجباري

    مع المطالبات الشعبية المستمرة بترحيل اللاجئين ،وتقلص المساحة الفعلية التي يسيطر عليها حلفاء تركيا في سوريا،والانتصارات المتتالية للنظام وحليفه الأكبر روسيا، بدأ أردوغان وحزبه الحاكم في تغيير سياستهما المرحبة باللاجئين، حيث صرح “أردوغان” في يوليو 2019 بأن حكومته ستتخذ عدة إجراءات من شأنها تشجيع السوريين على العودة إلى بلادهم. وفي هذا الإطار، أكد أنه سيتم إلغاء الخدمات  الطبية المجانية المقدمة لهم، وسيتم فرض تعريفة لتغطية تكاليف خدمات المستشفيات، بالإضافة إلى الترحيل الإجباري لمرتكبي الجرائم، ويتضح من ذلك ان قضية اللاجئين اصبحت تمثل عبئا ثقيلا علي حكومته لعدة أسباب يأتي علي رأسها:

    1-إستغلال المعارضة السياسي للغضب الشعبي من أزمة اللاجئين:

    رأت قوى المعارضة التركية أن ملف اللاجئين السوريين ورقة رابحة لكسب ثقة الرأي العام التركي للضغط على الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” وحزبه الذي يحكم تركيا منذ 18 عام. وأدى نجاح هذه الحملات إلى قيام بعض مرشحي الحزب الحاكم بتقديم تعهدات للناخبين بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم في أقرب وقت، وأتهمت المعارضة حكومة حزب العدالة والتنمية بالعمل على تغيير التركيبة الأيديولوجية والديموغرافية للشعب التركي،واستندوا في ذلك علي مشاركة عدد من اللاجئين السوريين في حملات ترويجية لمرشحي حزب العدالة والتنمية للانتخابات البلدية وهو ما اثار حفيظة القوميين والعلمانيين الأتراك، معتبرين أن “أردوغان” وحزب العدالة والتنمية سيعملان مستقبلا على توظيفهم لتحقيق مكاسب حزبية خاصة ،وهو ما اتي بثماره سريعا خلال الإنتخابات البلدية الماضية، والتي شهدت تراجعا ملحوظا لشعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم وخسارته في عدد من المدن الكبري وعلي رأسها اسطنبول، وفوز مرشح المعارضة وبالتحديد التابع لحزب الشعب الجمهوري” أكرم إمام أوغلو” علي مرشح الحزب الحاكم “بن علي يلدريم” رغم إعادة الإنتخابات مرة ثانية بدعوي التشكيك في نزاهة الإنتخابات الأولي من جانب الرئيس أردوغان وحزبه.

    2-تغيير التركيبة الديموغرافية والهوية القومية التركية:

    تتمركز غالبية اللاجئين السوريين عامة في تركيا في الجنوب التركي إضافة الي مدن تركيا الكبري في الشمال.

    ولقد أدى تمركز اللاجئين السوريين في الجنوب إلى قلب التوازن الديمغرافي في عدة محافظات. ووفقا لـ “المديرية العامة لإدارة الهجرة” في وزارة الداخلية، استقبلت المحافظات الحدودية الخمس، كيليس وهاتاي وماردين وسانليورفا وغازي عنتاب، أكثر من نصف اللاجئين. فعدد السكان في كيليس ما قبل الحرب (130 ألف) قد تضاعف خلال السنوات القليلة الماضية، وقد شهد عدد سكانها العرب ازديادا مطردا فخلال إحصاء عام 1960، كانت نسبة عدد سكان كيليس الذين أعلنوا أن لغتهم الأم هي العربية أقل من 1 في المائة، إلا أن هذه النسبة قد أصبحت 49.2 في المائة حاليا. وفي محافظة هاتاي، زاد تدفق اللاجئين عدد السكان العرب من 34 في المائة إلى 47 في المائة. كما أن وضع هاتاي يسلط الضوء على التأثير الطائفي للحرب، لأن اللاجئين هم من السنة العرب بشكل حصري تقريبا. وفي السابق،وقد كان معظم العرب في هاتاي ينتمون إلى الطائفة العلوية المسلمة (التي ينتمي إليها نظام الأسد في سوريا)، أما اليوم فهم منقسمون بالتساوي تقريبا ما بين السنة والعلويين،اما مدينتي ماردين وسانليورفا لم يختلفا كثيرا حيث تعرف المدينتان بغالبيتهما الكردية وشكل تزايد أعداد اللاجئين السوريين العرب بهما تغييرا ديموغرافيا وعرقيا ايضا، ففي ماردين زادت نسبة العرب من 21 إلى 29 في المائة، وفي سانليورفا من 13 إلى 28 في المائة. 

    أما في المدن الكبري، فقد استقر ربع اللاجئين في هذه المدن . إذ هاجر الكثيرون إلى اسطنبول التي تستقبل حاليا حوالي 360 ألف سوري، أو 2.4 في المائة من سكان المدينة. أما إزمير، ثالث أكبر مدينة في تركيا، فتستضيف ما يزيد قليلاً عن 83 ألف لاجئ، أو حوالي 2 في المائة من سكانها. في حين أن المدن متوسطة الحجم مثل بورصا وقونيا وقيصري فتضمّ عشرات الآلاف من السكان السوريين، ما يشير إلى أن اللاجئين ينتشرون أيضا عبر غرب ووسط منطقة الأناضول.

    3-الأزمة الإقتصادية الحالية بالبلاد:

    كان للتدهور الإقتصادي في البلاد، والهبوط الحاد لسعر الليرة التركية،اضافة لأسباب اخري علي رأسها البطالة والتي يعد أحد اسبابها العمالة السورية الرخيصة التي في بعض الأحيان تأخذ دور المواطنين الأتراك، أردوغان وحزبه لم يتوانا ايضا في استغلال هذه النقطة لمحاولة كسب ثقة الشارع من جديد،بعد الهزة الشديدة التي تعرض لها الحزب الحاكم بخصوص موقفه من قضية اللاجئين، فالقي اردوغان وحزبه باللوم علي اللاجئين وأن حالة التدهور والركود التي لحقت بالاقتصاد التركي وأدت إلى تراجع قيمة الليرة التركية، ترجع إلى تزايد أعداد اللاجئين السوريين بنسب كبيرة، مما أثر بالسلب على سوق العمل التركية، وهو ما تسبب في الضغط على السلع والخدمات العامة، مثل وسائل النقل والتعليم والمستشفيات. الأتراك عامة بدأوا يوجهون اصابع الإتهام إلى العمالة السورية ذات الأجور المنخفضة معتبرين اياها احد الأسباب التي أدت إلى تزايد أزمة البطالة بين الأتراك، حيث يميل بعض أصحاب القطاع الخاص لتوظيف السوريين الذين لا يمتلكون تصاريح عمل رسمية، وذلك بسبب أجورهم الزهيدة.

    ولكن علي الرغم من ذلك، فإن بعض السوريين تمكنوا ايضا من الحصول على وظائف ذات رواتب مرتفعة، بالإضافة إلى أن بعضهم قام بتوظيف أمواله في شركات وأعمال تجارية. وقد أفاد تقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي السوري بأن تركيا شهدت منذ 2011 تسجيل أكثر من 6500 شركة ونشاط اقتصادي أنشأها أو ساهم في إنشائها السوريون،وهو ما يتعارض مع الإدعاءات التركية.

    ثانيا:مستقبل اللاجئين السوريين في تركيا:

    لا شك أن مستقبل اللاجئين لايزال غامضا كغموض مصير الأزمة السورية بأكملها، وحليها السياسي والعسكري بلا استثناء، ولكن لاتزال تظهر علي الساحة ما بين حين وآخر بعض المؤشرات التي من الممكن أن نستند اليها لتحديد او علي الأقل التنبؤ بمصير اللاجئين السوريين في تركيا من خلال ركيزتين رئيسيتين ويتمثلان في:

    1- تأثير الإنتخابات البلدية الماضية علي وضع اللاجئين

    أثناء الدعاية الإنتخابية لمرشحي الأحزاب المتنافسة،سواء كانت المعارضة أو حزب العدالة والتنمية،فقد حازت قضية اللاجئين علي جزء كبير وهام من خطابهم الإنتخابي،فبالرغم من الإختلاف النسبي البسيط لحدة الدعاية الموجهة من الجانبين تجاه اللاجئين،الا انهم اتفقوا علي تضييق الخناق علي اللاجئين السوريين لكسب تعاطف الناخبين، فرغم استغلال الحزب الحاكم في البداية للطابع الإنساني والأخلاقي لهذه القضية  ليحصل علي دعم دولي مادي وسياسي يتعلق بعمليات تركيا العسكرية في سوريا،ومن جانب آخر ينال رضا اتباعه في الداخل والخارج من التيارات الدينية التي تعتبره المدافع الاول عن قضايا الإسلام والمسلمين.

    ولكن علي غير العادة خرج مرشح حزب العدالة والتنمية في اسطنبول “بن علي يلدريم” في تغريدة علي تويتر قائلا “إذا كان هناك سوريون يؤثرون على استقرار إسطنبول أو يشكلون مشكلة أمنية أو يؤثرون على الحياة الطبيعية بشكل سلبي، لن نترك ذلك بدون ’إجراءات’، لن نتسامح مع ذلك، وسنعيد هؤلاء، لأن الأصل هو استقرار سكان إسطنبول”

    بما يتعارض مع الخطاب السابق الذي كان داعما ومتعاطفا مع قضية اللاجئين الي درجة وصف الحزب للعلاقة بين الأتراك واللاجئين السوريين بعلاقة المهاجرين بالأنصار اثناء الهجرة المحمدية،وهو ما كان مجرد دعاية فارغة استخدمتها ادوات أردوغان وحزبه الإعلامية.

    موقف المعارضة لم يختلف عن موقف الحزب الحاكم،بل كان شديد اللهجة ايضا تجاه هذه القضية لاستغلال الحنق الكبير للمواطنين الأتراك تجاه السوريين، ففي ولاية مرسين أعلن زعيم حزب الشعب الجمهوري “كمال كلتشدار أوغلو” وهو الحزب الذي ينتمي اليه “أكرم امام اوغلو” في خطاب أمام الناخبين “نحن عازمون علي إعادة جميع الأخوة السوريين الي وطنهم،وانا اسف لذلك، فكل شخص يجب أن يعود الي البلد الذي ولد فيه”.

    في النهاية،شهدت الإنتخابات البلدية هزيمة للحزب الحاكم في المدن الكبري وعلي رأسهم اسطنبول وأنقرة وآضنة ومرسين ، ونجاح المعارضة والتي امتازت بحدة الخطاب الموجه تجاه اللاجئين السوريين،بالتأكيد ذلك سيغير نسبيا من التعامل مع اللاجئين وبالتحديد في اسطنبول التي فاز بها حزب الشعب الجمهورى ومرشحه “أكرم امام أوغلو” حيث يوجد بها حوالي ربع العدد الإجمالي للاجئين السوريين في تركيا، فبعد الانتخابات سرعان ما بدأت حملة أمنية واسعة ضد السوريين المخالفين الذين يحملون “بطاقة الحماية المؤقتة” (كيملك) صادرة من ولاية غير إسطنبول، وضد غير الحاصلين على البطاقة أساساً، وترحيل عدد منهم إلى سوريا وهو ما أيده “امام أوغلو” حيث قال في مقابلة صحفية أن “ارسال الأشخاص غير المقيدين باسطنبول الي بقية المدن، هو اجراء ضروري لأن المجتمع لا يمكنه تحمل كل هذا العبء” متسائلا في الوقت نفسه عن سبب عدم اتخاذ هذه الإجراءات من البداية.

    لكن الجدير بالذكر،ان الانتخابات هي انتخابات بلدية محلية،  تتعلق بالجانب الخدمي فقط، ولا علاقة لها بالسلطة أو القرار السياسي، اضافة الي ان القرارات السياسية تصدر مباشرة من الرئيس،أما فيما يخص  البلديات الحدودية التي يكثر فيها وجود السوريين، كيليس وغازي عنتاب وأورفة فاز فيها حزب العدالة والتنمية، بلدية هاتاي فقط فاز فيها حزب الشعب الجمهوري، وهذا يعني أن الوضع هناك سيستمر على ما هو عليه،ولكن رغم ذلك ستمثل هذا الانتخابات عامل ضغط شديد علي الحكومة التركية الحالية بسبب التراجع الملحوظ للحزب الحاكم في المدن الكبري،ولعل قضية اللاجئين ستكون أولي الخطوات التي سيحاول من خلالها الحزب استعادة ثقة الشارع،خاصة ان المعارضة ستعمل هي الاخري علي استغلال المكاسب التي حققتها خلال هذه الإنتخابات للضغط علي الحكومة من أجل ترحيل اللاجئين.

    2-مصير الإتفاق مع الإتحاد الأوروبي

    منذ اندلاع الأزمة السورية وحتي هذه اللحظة لازال اردوغان يستخدم ورقة اللاجئين للضغط علي الأوروبيين،فقد هدد في نوفمبر 2016 بفتح الحدود أمام المهاجرين السوريين الراغبين في التوجه إلى أوروبا، غداة تصويت البرلمان الأوروبي لصالح تجميد مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتمكن أردوغان بالفعل حينها من التوصل لاتفاق مع الاتحاد الأوروبي ينص على أن توقف أنقرة تدفق المهاجرين على حدود الاتحاد مقابل الحصول علي مساعدات مالية قدرها 6 مليارات يورو للابقاء علي المهاجرين في تركيا. ولكن أردوغان عاد مرة اخري لاستخدام هذه الورقة في وجه الأوروبيين من أجل الحصول على المزيد من المساعدات، والحصول على بعض المكاسب الأخري كتسهيل حصول الأتراك على تأشيرات دخول الاتحاد الأوروبي ومحاولة عقد مفاوضات للتوقيع على اتفاق جمركي بين الطرفين، إضافة إلى التخفيف من حدة الاعتراضات الأوروبية على سياسات أردوغان في المنطقة .

    رغم ذلك مازال مصير الإتفاق مع الاتحاد الأوروبي ضبابيا حتي الآن،ولكن المؤشرات الحالية توحي بامكانية نجاح أردوغان في الحصول علي المزيد من التنازلات من الأوروبيين لعدة أسباب من بينها:

    1-قضية الهجرة واللجوء على درجة عالية من الحساسية للاتحاد الأوروبي بالنظر إلى ما أحدثته الموجة الأولى من تدفق اللاجئين من تركيا إلى أوروبا عام 2015-2016 من تغيرات عاصفة بالمشهد الأوروبي، بعد أن غذت تيارات يمينية شعبوية معادية للمهاجرين وصعدت بشعبية أحزاب يمينية متطرفة، وكانت أحد العوامل التي عززت توجه البريطانيين للانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

    2-الإتحاد الأوروبي لا يريد الظهور بمظهر القامع للاجئين المتدفقين على حدوده،لرغبته في الحفاظ علي صورته الإنسانية امام المجتمع الدولي،والحفاظ علي مصداقية أهدافه بشكل او بآخر.

    3-قد يضطر الإتحاد الأوروبي للعودة الي طاولة الحوار مع الأتراك،لتخفيف الضغط علي اليونان أحد الدول الأعضاء بالاتحاد،والتي سمحت أنقرة بتدفق اللاجئين علي حدودها في الآونة الأخيرة،وهو ما لن تستطيع اليونان تحمل عواقبه،بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد وما زاد منها تداعيات فيروس كورونا علي اليونان وعلي الإتحاد الأوروبي بشكل عام.

    ملاحظات ختامية:

    1-موقف تركيا من قضية اللاجئين السوريين لا يسير علي نسق واحد ودائم، لكن الثابت الوحيد من السياسة التركية في هذا الشأن هو سياسة المصالح التي تتبعها أنقرة باستغلال القضية علي فترات بطرق مختلفة،ففي البداية أعلنت تبنيها لسياسة “الباب المفتوح” ومع التطورات في الآونة الأخيرة بدأت باتباع سياسة متشددة في التعامل مع تلك القضية.

    2-نتيجة الإنتخابات البلدية الأخيرة علي الورق لا تملك فعليا هذا الحجم اللازم من الصلاحيات، لتغيير او علي الأقل للتأثير علي سياسة الدولة العليا تجاه اللاجئين، ولكن يمكن اعتبارها جرس انذار مبكر لأردوغان وحكومته بسبب خسارة حزبه في مدن تركيا الكبري، مما قد يدفع حكومته في الفترة القادمة لاتخاذ قرارات أكثر تشددا في التعامل مع اللاجئين السوريين، وهو ما بدأت تظهر بوادره بالفعل حاليا.

    3-الضغط التركي علي الإتحاد الأوروبي بورقة اللاجئين السوريين نجح سابقا، ومن المحتمل أن ينجح في الفترة القادمة لعوامل عديدة منها:

    أ-الرهبة الشديدة لدي الأوروبيين من استمرار صعود تيار اليمين المتطرف في الإتحاد والذي يتبني موقفا عنصريا ومعاديا لاستقبال اللاجئين.

    ب-الهاجس الكبير لدي الأوروبيين من اهتزاز صورة ومصداقية الإتحاد امام المجتمع الدولي،حيث قد يؤدي استمرار تعنت الاتحاد في عدم استقبال اللاجئين، سلاحا قد يستخدمه اردوغان لاحراج الاوروبيين امام المجتمع الدولي.

    ج-عدم قدرة الاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي، علي تمويل اليونان المنهار اقتصاديا لكي تقدم له المساعدات من أجل التكفل بالمهاجرين، الذي دفع بهم أردوغان علي الحدود اليونانية،ويرجع ذلك الي الأزمة الاقتصادية العالمية الناجمة عن تداعيات جائحة كورونا.

    4-لا شك أن الخاسر الأكبر من بين أطراف الأزمة بشكل عام، هم اللاجئون السوريون، لأنهم اصبحوا مجرد ورقة في ايدي أنقرة تحركها كيفما شاءت،لتحقيق مصالحها علي حساب معاناة اللاجئين،سواءا لكسب الدعم المالي او السياسي من الأوروبيين،او محاولة كسب ثقة الشارع التركي من جديد، ولا يستبعد أن يكونوا كبش فداء اذا ما تواصل الضغط الشعبي علي أردوغان،او اذا لم يتم التوصل لإتفاق مع الإتحاد الأوروبي.

    شاركها.